منع الوفد الوزاري العربي من زيارة رام الله: تأكيد على التمسك الاسرائيلي باستراتيجية إدارة الصراع لا حلّه .. بقلم هاني الرّوسان

منذ بدء حرب الابادة الإسرائيلية الشاملة على قطاع غزة، وما رافقها من تصعيد متواصل في الضفة الغربية، بدا جليًا أن إسرائيل تتحرك وفق استراتيجية واضحة لا تستهدف إنهاء الصراع مع الفلسطينيين، بل إدارته بطريقة تمنحها أكبر قدر من المكاسب الأمنية والجيوسياسية والاقتصادية، على قاعدة تقويض كل إمكانيات الحل، وعزل القيادة الفلسطينية، وتوسيع رقعة السيطرة الميدانية. في هذا السياق، ليس منع الوفد الوزاري العربي من زيارة رام الله ولقاء الرئيس محمود عباس حادثة معزولة أو استثناءً، بل خطوة كاشفة عن جوهر المشروع الإسرائيلي القائم على رفض أي مسار تفاوضي جاد، حتى وإن جاء عبر أقرب حلفائها العرب.

ففي لحظة إقليمية مفصلية، كان من المقرر أن يزور رام الله وفد رفيع من وزراء خارجية السعودية ومصر والأردن والإمارات، في مبادرة تحمل أبعادًا رمزية وعملية تهدف إلى دعم السلطة الفلسطينية، والبحث في آليات إنهاء النزاع، وخلق أفق سياسي يحول دون الانهيار الشامل. لكن إسرائيل، التي تفرض قبضتها الأمنية على كامل الضفة الغربية، بما فيها المناطق المصنفة (أ)، منعت هذه الزيارة، متذرعة بالاعتبارات الأمنية، ومتجاهلة الأعراف الدبلوماسية، ومتحدية حتى الدول التي تصفها بـ”شركاء السلام”.

السؤال الذي يفرض نفسه هنا ليس لماذا منعت إسرائيل الوفد العربي، بل: كيف سيفسر العالم هذا المنع؟ فالمجتمع الدولي – رغم صمته المطبق على تدمير غزة، وابتلاع أكثر من 80% من أراضي الضفة، ومواصلة حرب الإبادة والتطهير العرقي ضد الفلسطينيين تحت شعار “محاربة الإرهاب” – قد يجد صعوبة في تبرير تصرف يمنع حتى مجرد لقاء دبلوماسي مع قيادة شرعية، عبر وفد عربي يُفترض أنه صديق لإسرائيل، وجاء بالحد الأدنى من المطالب لدعم مسار التهدئة والتكامل الإقليمي.

منع الوفد العربي لا يعكس فقط عقلية العزل التي تتبناها إسرائيل ضد الفلسطينيين، بل يكشف رفضها العميق لأي دور عربي مستقل في الملف الفلسطيني، حتى من قِبل دول منخرطة في علاقات سياسية واقتصادية وأمنية متقدمة معها. هي لا تريد وسطاء، ولا شركاء، ولا مبادرات، بل تسعى إلى فرض معادلة الأمر الواقع: احتلال مستدام، بدون كلفة سياسية، وبدون وجود فلسطيني قابل للحياة.

في المقابل، العجز العربي في التعاطي مع هذه الصفعة الدبلوماسية الفاضحة مثّل استمرارًا لحالة التردد واللايقين التي تحكم الموقف الرسمي العربي منذ سنوات. إذ لم يصدر موقف جماعي واضح يدين التصرف الإسرائيلي أو يلوّح بأي إجراء عقابي، بل طُويت الصفحة كما لو أن شيئًا لم يكن، مما منح إسرائيل الضوء الأخضر للاستمرار في نهجها دون خشية من تبعات إقليمية.

بل الأخطر أن إسرائيل، في ظل هذا التراخي، استطاعت تسويق استراتيجيتها القائمة على “الاندماج الإقليمي” بوصفه بديلًا عن الحل السياسي مع الفلسطينيين، مدعية أن الأولوية هي للتعاون الأمني والاقتصادي مع الدول العربية، لا لمفاوضات عقيمة مع سلطة ضعيفة. لكن المنع الأخير وجّه ضربة مباشرة لهذا الادعاء، وأثبت أن إسرائيل لا تقبل لا بالفلسطينيين ولا بالعرب شركاء في رسم مستقبل المنطقة، بل أدوات توظيف في خدمة أمنها وتوسّعها.

وهنا تبرز الحقيقة الجوهرية: إسرائيل لا تسعى إلى إنهاء الصراع، بل إلى إدارته وفق شروطها، عبر مزيج من السيطرة الأمنية، والتطبيع الانتقائي، والردع العسكري، والاحتواء السياسي. وهي تفهم جيدًا أن غياب موقف عربي حاسم – سياسيًا ودبلوماسيًا وإعلاميًا – يتيح لها الاستمرار في هذا النهج دون تكلفة تُذكر.

لقد صمت العالم على جرائم الإبادة الجماعية في غزة، وتوسع الاستيطان، وتقويض السلطة الفلسطينية، لكنه لن يجد تفسيرًا مقنعًا لرفض إسرائيل استقبال وفد عربي هدفه المعلن دعم “الحل السياسي” الذي تدعي تبنيه. وهنا، إن لم يتحرك العرب – وخصوصًا الدول التي ما زالت تُصنَّف كـ”شركاء لإسرائيل” – بردّ موحد وحازم، فإن إسرائيل ستواصل سلوكها التصعيدي بثقة أكبر، وستعتبر أن كل الأبواب مشرعة لتصفية القضية الفلسطينية سياسيًا، كما تسعى لتصفيتها ميدانيًا.

إن اللحظة تتطلب إعادة تقييم شاملة من العرب، ليس فقط لموقعهم في المعادلة الإقليمية، بل أيضًا لدورهم في حماية الحد الأدنى من الكرامة الدبلوماسية والسيادة السياسية. فالمعركة لم تعد فقط مع الاحتلال، بل مع مشروع إدارة الصراع كبديل عن إنهائه، ومع محاولة شطب فلسطين من أجندة النظام العربي، بالتدريج ومن الداخل.

 

 

 

هاني الروسان

أستاذ الاعلام في جامعة منوبة

 

 

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *