من المقاومة إلى الدولة: فلسطين تُجبر أوروبا على الاعتراف .. بقلم محمدعلي العقربي

لم يكن السابع من أكتوبر 2023 مجرد تاريخ لاندلاع مواجهة عسكرية في غزة، بل كان بداية زلزال سياسي وأخلاقي امتدّ صداه من أزقة خان يونس إلى شوارع مدريد، ومن أنفاق غزة إلى منابر الجامعات الأمريكية. في لحظة واحدة، لم تعد فلسطين تختصر في كلمة تمرّ مرور الكرام في نشرات الأخبار، بل عادت لتكون عنوانًا مركزيًا للعدالة الإنسانية، ودليلًا صارخًا على نفاق نظام دولي يبكي على المدنيين في أوكرانيا ويصمت أمام المجازر في غزة.
عملية “طوفان الأقصى”، التي قادتها المقاومة الفلسطينية، جاءت كصرخة هائلة من تحت الركام، صرخة لم يكن بالإمكان تجاهلها، لا إعلاميًا ولا سياسيًا. لقد شكّلت هذه العملية نقطة تحوّل في مسار القضية الفلسطينية، ليس لأنها غيّرت ميزان القوى على الأرض بشكل مباشر، بل لأنها أحدثت ما يمكن وصفه بـ”الخلل الرمزي” في صورة إسرائيل أمام العالم، وفتحت شقوقًا عميقة في جدار الصمت الغربي.
لأول مرة منذ عقود، بدا المشهد معكوسًا: إسرائيل في موقع المتهم لا الضحية، والمقاومة الفلسطينية ليست عبثية كما حاولوا تصويرها، بل فعل تاريخي محكوم بالضرورة. انقلبت الطاولة. عواصم غربية باتت تشهد مظاهرات غير مسبوقة دعماً لفلسطين، ووسائل إعلام كبرى بدأت بمراجعة مصطلحاتها، وحتى سياسيون اعتادوا أن يتحدثوا عن “حق إسرائيل في الدفاع عن النفس” وجدوا أنفسهم مُجبرين على الإقرار بحق الفلسطينيين في الحياة، بل وفي الدولة.
ما حدث في أوروبا كان بمثابة إعادة تعريف للموقف الأخلاقي من القضية الفلسطينية. لم تعد المسألة تتعلق فقط بمشاعر التضامن، بل بانكشاف تام للمعايير المزدوجة. لقد دفعت صور الأطفال تحت الأنقاض، والبيوت المنهارة، والقصف الذي لا يفرّق بين مشفى ومدرسة، كثيرًا من الحكومات الأوروبية إلى مراجعة علاقاتها مع إسرائيل، بعد أن أصبح الصمت مكلفًا سياسيًا وشعبيًا.
وفي مشهد غير مألوف منذ عقود، خرجت حكومات مثل إسبانيا وأيرلندا والنرويج لتعلن استعدادها للاعتراف بدولة فلسطين، في خطوة تحدّت السياسة الأمريكية التقليدية. لم يكن هذا التحوّل نتيجة قرار فوقي، بل تتويجًا لحراك شعبي وأكاديمي متصاعد. الجامعات الغربية، التي طالما التزمت الحياد أو اكتفت ببيانات باهتة، صارت بؤرًا للغضب والنقاش، وطلبة من جنسيات متعددة يطالبون بمقاطعة المؤسسات الإسرائيلية، ويقارنون ما يجري في فلسطين بما جرى في جنوب إفريقيا إبان الفصل العنصري.
لقد نجحت المقاومة الفلسطينية، وإن بثمن باهظ، في إعادة تشكيل السردية. أعادت الفلسطيني من صورة اللاجئ أو المتمرد إلى صورة الإنسان الحرّ، صاحب الحق، والمقاوم للعدوان. لم يعد ممكنًا اختزال الفلسطيني في صورة نمطية واحدة. أصبح هو الطالب في جامعة نيويورك الذي ينظّم وقفة احتجاج، وهو الطبيب الذي يحفر بأظافره في أنقاض المستشفى، وهو الطفل الذي لا يجد سوى الرمل والدم تحت قدميه، ومع ذلك يحمل علماً.
والأهم من ذلك، أن “طوفان الأقصى” أعاد تعريف فكرة الدولة الفلسطينية نفسها. لم تعد الدولة مطلبًا تفاوضيًا في أروقة الأمم المتحدة، بل أصبحت ضرورة أخلاقية واستراتيجية. ليس اعترافًا رمزيًا بكيان ما، بل تأكيدًا على حق الشعوب في تقرير مصيرها، وعلى أن الاحتلال ليس قدرًا، وأن الظلم، مهما طال، لا يمكن أن يتحوّل إلى قانون دائم.
هكذا تحوّل الطوفان العسكري إلى طوفان وعي. وربما هذا هو أخطر ما فعلته المقاومة: أنها فتحت أعين العالم. لم تُسقط فقط بعض الأسوار الفاصلة داخل فلسطين، بل أسقطت الأسوار الأخلاقية حول ضمائر شعوب كانت مغيّبة أو مترددة.
فإذا كان طوفان الأقصى قد بدأ من غزة، فإنه قد وصل الآن إلى بروكسل وباريس ونيويورك. والموجة القادمة ليست موجة صواريخ، بل موجة وعي وتحرّر وخطاب جديد. إنه التاريخ حين يُكتب بلغة الدم، لكنه يُقرأ بلغة الحقيقة.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *