ترامب في الخليج… زيارة على وقع التاريخ وصفقاته .. بقلم محمدعلي العقربي

في السياسة كما في المسرح، هناك لحظات تبدو أكبر من ممثليها، ومشاهد تُكتب لا بما يُقال فيها، بل بما يُخفى خلفها. وزيارة دونالد ترامب الأخيرة إلى الخليج وهي الأولى منذ إعلان ترشحه الرسمي للعودة إلى البيت الأبيض , تنتمي إلى هذا النوع من اللحظات. لقد جاءت الزيارة، من حيث التوقيت والرسائل، كأنها تعبير صريح عن تحولات تكتونية تجري بهدوء في جغرافيا المصالح الأمريكية، وسط صخب صفقات تتجاوز التريليون، وصمت مطبق عن الأسئلة الكبرى.
لقد اختار ترامب أن يبدأ جولته من السعودية، لا من إسرائيل، وهو بذلك كسر تقليدًا أمريكيًا عمره نصف قرن. منذ عهد نيكسون، اعتاد الرؤساء الأمريكيون أن تكون زياراتهم للشرق الأوسط موزعة بالمسطرة بين تل أبيب وعواصم العرب، إن لم تكن مرجحة دومًا لكفة الحليف الإسرائيلي. لكن ترامب اليوم، وقد أصبح سيدًا مطلقًا على جناح من الحزب الجمهوري لا يضع الولاء التقليدي في الحسبان، جاء ليعكس توجهًا مختلفًا: الخليج أولًا، والاقتصاد قبل كل شيء.

ما وراء الصفقات

أن تُوقع السعودية وقطر والإمارات صفقات بقيمة تقارب تريليوني دولار خلال أيام معدودة، فذلك لا يمكن تفسيره بمجرد العائد الاقتصادي. هذا مال سياسي بامتياز، وظيفته تأمين شراكة استراتيجية تتجاوز الرهانات التقليدية على البنتاغون أو الكونغرس، إلى الرهان على رجل واحد — ترامب — في سعيه المحموم نحو الرئاسة.
لكن اللافت، أن ترامب لم يُخفِ هذه الحقيقة، بل بدا كمن يُساوم على المكشوف. قالها صراحة في منتدى الاستثمار بالرياض: “سأعيد أمريكا قوية، لكن من بوابة تحالفات جديدة” ، وهي عبارة تكشف عن فهم براغماتي للعالم، أقرب إلى عقلية التاجر منه إلى رؤية الدولة العميقة.

إسرائيل الغائبة… والحاضرة

أما الغياب الرسمي لإسرائيل عن جدول الزيارة، فقد أحدث صدمة في تل أبيب، لم يُخفها الإعلام العبري ولا حتى قادة اليمين. إسرائيل، التي لطالما شعرت بأنها الحليف “المدلل”، وجدت نفسها أمام مشهد تتقدم فيه الرياض وأبو ظبي والدوحة لتحتكر صورة الرجل الذي كان يُفترض أنه “الأقرب” إلى ناتنياهو.
ولكن الحقيقة أن الغياب كان شكليًا. فكل خطوة خطاها ترامب في الخليج كانت محسوبة بعيون إسرائيلية: من صفقات السلاح التي قد تمس التفوق النوعي الإسرائيلي، إلى إعلان الهدنة مع الحوثيين، الذي أربك الحسابات الأمنية لتل أبيب في البحر الأحمر. بل إن خطته لتصفية ملف غزة عبر إعادة توطين الفلسطينيين في سيناء أو خارجها هي خطة تُصاغ بخط إسرائيلي، وإن نُفذت بأيدٍ أمريكية وخليجية.

توازنات الصمت

اللافت في هذه الجولة أيضًا، ليس ما قيل فيها، بل ما لم يُقل. لم تذكر حقوق الإنسان في الرياض، ولا الديمقراطية في أبوظبي، ولا حرية التعبير في الدوحة. لم تُسأل الإمارات عن دورها في السودان، ولا السعودية عن مستقبل الحرب في اليمن، ولا قطر عن علاقاتها بحركات المقاومة.
هذا الصمت لم يكن غفلة، بل كان مقصودًا. ترامب، مثل تاجر ماهر، يعرف أن السوق لا يُناقش القيم، بل العائد. وقد وجد في هذه العواصم من يفهم قواعد الصفقة جيدًا: أنت تدفع، وأنا أتعهد لا أكثر.

بين الخليج وواشنطن… رهان محفوف بالمخاطر

لكن يبقى السؤال الكبير: هل تراهن العواصم الخليجية على الحصان الصحيح؟ فالرجل الذي يوقع معهم اليوم، قد يواجه محاكمات غدًا، ومؤسسات الدولة الأمريكية لا تزال منقسمة بشأنه. والبيت الأبيض، إن عاد إليه ترامب، قد يكون مختلفًا جذريًا عما عرفه العالم في 2017 ،أكثر تشددًا، وأقل التزامًا بالثوابت.
وفي النهاية، لا بد أن نُعيد التذكير بما قاله هيكل في سياق آخر: “السياسة لا تُقاس بما يحدث اليوم، بل بما سيترتب عليه بعد غد.” والزيارة التي تبدو اليوم صفقة مربحة، قد تكون بداية لسلسلة من التحولات لا يملك أحد مفتاحها حتى الآن.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *