عودة إسرائيل للحرب على غزة لا تعكس تفوقًا استراتيجيًا بقدر ما تؤكد فشلها في تحقيق حسم سياسي أو عسكري. في الفكر العسكري، تُعتبر الحرب وسيلة لتحقيق أهداف سياسية، لكن حين تفقد الحرب هذا البعد وتتحول إلى صراع مستمر دون رؤية واضحة، فإنها تصبح عبئًا على الدولة التي تخوضها. في تاريخ الصراعات، شهدت القوى الكبرى لحظات شبيهة، حيث تحولت العمليات العسكرية من أدوات ضغط إلى استنزاف مفتوح، كما حدث للولايات المتحدة في فيتنام وأفغانستان، والاتحاد السوفيتي في حربه ضد المجاهدين في الثمانينيات. واليوم، تجد إسرائيل نفسها في وضع مشابه، حيث لم تعد الحرب مجرد أداة لفرض معادلة أمنية، بل باتت أزمة في حد ذاتها.
منذ السابع من أكتوبر، تعاملت إسرائيل مع الحرب باعتبارها فرصة لإعادة ترميم “نظرية الردع”، لكن التمديد المستمر للعمليات القتالية دون تحقيق أهداف جوهرية أوقعها في مأزق “الحروب اللانهائية” (Endless Wars)، حيث تصبح الحرب غاية بحد ذاتها بدل أن تكون وسيلة لتحقيق الاستقرار. وفقًا لمنظّري العلاقات الدولية، فإن أي صراع طويل دون أفق تسوية يتحول إلى استنزاف استراتيجي، وهي الحالة التي تفقد فيها القوة المهاجمة قدرتها على فرض إرادتها، رغم استمرار تفوقها العسكري.
إسرائيل اليوم تواجه تحديًا جوهريًا يتمثل في فقدان السيطرة على مسار الحرب. فعلى الصعيد الداخلي، تتفاقم الانقسامات السياسية، حيث يتعرض الائتلاف الحاكم لضغوط متزايدة من المعارضة والجمهور بسبب غياب استراتيجية خروج واضحة. أما على المستوى الدولي، فإن الدعم الغربي، رغم بقائه قويًا، بدأ يتآكل تدريجيًا تحت ضغط الرأي العام العالمي.
في الفكر الاستراتيجي، هناك مفهوم “نقطة الذروة”، الذي طرحه كلاوزفيتز، ويعني اللحظة التي تفقد فيها القوة العسكرية قدرتها على تحقيق المزيد من المكاسب، بحيث يصبح أي تصعيد إضافي مكلفًا دون تحقيق نتائج جديدة. إسرائيل تبدو اليوم وقد اقتربت من هذه النقطة، حيث لم يعد توسيع العمليات العسكرية كفيلًا بفرض شروطها، بل أصبح يزيد من تعقيد المشهد الإقليمي، ويمنح خصومها فرصة أكبر لإعادة ترتيب أوراقهم.
التاريخ مليء بالحروب التي تحولت إلى أزمات للدول التي خاضتها، ليس بسبب الهزيمة العسكرية المباشرة، بل بسبب غياب الرؤية الاستراتيجية. الحرب العالمية الأولى، على سبيل المثال، لم تكن نتيجتها محسومة بسبب معركة بعينها، بل لأن القوى المتصارعة دخلت في حالة إنهاك متبادل ، أدت إلى انهيار بعض الأنظمة السياسية بالكامل. وحتى في الحروب الإسرائيلية السابقة، مثل حرب 1982 في لبنان، لم يكن الاحتلال الإسرائيلي لبيروت كافيًا لتحقيق أهداف تل أبيب، بل أدى إلى ظهور مقاومة منظمة أجبرتها لاحقًا على الانسحاب.
إسرائيل اليوم ليست أمام تحدٍ عسكري فقط، بل أمام مأزق سياسي واستراتيجي أعمق: هل يمكنها تحقيق نصر حقيقي، أم أنها عالقة في صراع لا أفق له؟ استمرار الحرب في ظل هذه المعادلة ليس دليل قوة، بل قد يكون مؤشرًا على دخول إسرائيل في مرحلة العجز الاستراتيجي، حيث تصبح كل خطوة إضافية في الصراع خطوة نحو فقدان القدرة على التحكم في مساره
عودة الحرب : هل تسعى إسرائيل للنصر أم تغرق في مستنقعها؟ .. بقلم محمد علي عقربي
