جدوى الصحافة في زمن الإبادة: شهادة تُقاوم النسيان .. بقلم حنان الحيدري

جدوى الصحافة في زمن الإبادة: شهادة تُقاوم النسيان
بقلم: حنان الحيدري – باحثة ماجستير اتصال سياسي بمعهد الصحافة

في زمن يسوده القتل الجماعي، والصمت الدولي، والكاميرات التي تُطفأ عمدًا، تصبح الصحافة ليست فقط مهنة، بل مقاومة. فحين يصمت العالم، يتكلم الصحفي، وحين تختفي الحقيقة، تُولد من عدسة كاميرا أو قلم مقاوم.

بين التوثيق والتواطؤ

من رواندا إلى البوسنة، ومن غزة إلى حلب، ثم دارفور واليمن، لا تزال الإبادة الجماعية وصمة في جبين هذا العصر. وبينما يترك المجتمع الدولي في معظم الأحيان مسافة آمنة من المذابح، يُلقى العبء الأخلاقي على عاتق الصحفي، الذي يتحول من ناقل للخبر إلى شاهد على الجريمة.

في إبادة رواندا عام 1994، كان الصحفيون هم أول من كشف للعالم المجازر العرقية التي ارتُكبت ضد التوتسي، بعد أن قُتل قرابة مليون شخص خلال مئة يوم. المشهد نفسه تكرر في البوسنة، حين وثقت العدسات مجزرة سريبرينيتسا عام 1995، حيث قُتل أكثر من 8 آلاف مسلم بوسني على يد القوات الصربية، رغم وعود الحماية الدولية.

وفي العقد الأخير، ظهرت سوريا كمثال صارخ على العجز الدولي وفعالية الصحافة المستقلة، بعدما نقل صحفيون محليون، بكاميرات الهواتف المحمولة، صور البراميل المتفجرة، والمجازر، والمجازر الكيميائية، ومآسي الحصار.

الكاميرا التي تزعج القاتل

الإبادة لا تحتاج كثيرًا من الضجيج، بل تستفيد من الصمت. وهنا تمامًا يتجلى دور الصحافة. في فلسطين، لطالما سعى الاحتلال الإسرائيلي إلى عزل الفلسطينيين عن العالم، ليس فقط عبر الجدران، بل من خلال السيطرة على الرواية. لكنها فشلت مرارًا. الصحافة الفلسطينية، ومعها صحفيون أحرار من أنحاء العالم، نقلوا المجازر من مخيم جنين، إلى الشجاعية، إلى مجازر غزة المتكررة.

شيرين أبو عاقلة، التي اغتيلت بدمٍ بارد أثناء تغطيتها لاقتحام إسرائيلي في جنين، لم تكن مجرد صحفية. كانت رمزًا لوطن ينزف، وحقيقة تُستهدف. جسدت بصوتها وعدستها معنى أن تكون الصحافة فعل مقاومة.

وفي سوريا، كانت عدسة المواطن الصحفي هي المصدر الوحيد تقريبًا لما يجري في الداخل. مع غياب الإعلام الدولي، نشأت منصات بديلة، وتحوّل الصحفي إلى وثيقة حيّة. مشاهد القصف، الشهادات من المعتقلات، وصور الأطفال تحت الأنقاض، شكّلت ذاكرة بصرية لا يمكن محوها.

أما في اليمن، فقد ظل الصحفيون المحليون – في ظل تسييس الإعلام الدولي – صوتًا للمجاعة المنسية والانهيار الإنساني. تقارير مصورة، وشهادات من قلب الحدث، حاولت كسر حاجز التجاهل الدولي، ولو جزئيًا.

في ميانمار، حين تعرض مسلمو الروهينغا لتطهير عرقي، كانت محاولة عزلهم إعلاميًا جزءًا من الجريمة. ومع ذلك، تمكّن صحفيون مستقلون – رغم السجن والقمع – من كشف الفظائع، الأمر الذي أجبر الأمم المتحدة لاحقًا على فتح تحقيق رسمي.

الكلمة لا تقتل، لكنها تمنع النسيان

لا تحمل الصحافة جيوشًا، لكنها تسلّح الذاكرة. لا توقف المجازر، لكنها تمنع أن تُرتكب في الظل. وعندما يُطلب من العالم أن ينسى، تكون الكلمة الصادقة والصورة الحيّة بمثابة وثيقة اتهام ضد القتلة، وضمانة ألا تذهب دماء الضحايا طيّ النسيان.

في زمن الإبادة، لا تكون الصحافة ترفًا ولا مجرد مهنة. هي ضمير العالم. هي الصوت الأخير حين تُخرس البنادق كل الأصوات.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *